يواصل الذكاء الاصطناعي (AI) في عام 2024 إحداث تغييرات جذرية في مختلف القطاعات والصناعات. فمع بداية العام، نشهد ظهور ابتكارات جديدة في مجالات مختلفة مستخدمة تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتي تجلب معها فرصًا وإمكانيات لم تكن ممكنة من قبل. هذه التطورات ليست مجرد تحسينات طفيفة على التقنيات الحالية، بل هي قفزات نوعية تفتح آفاقًا جديدة لتحسين الأداء والكفاءة، وتوسيع نطاق الاستخدامات العملية للذكاء الاصطناعي. من الحوسبة الكمية إلى الروبوتات الذكية، يشهد العالم ثورة تقنية تعيد تعريف كيفية تفاعلنا مع التكنولوجيا وتوظيفها في حياتنا اليومية.
تتجلى هذه الابتكارات في تحسينات كبيرة في قدرة الحوسبة، وتطورات في الرعاية الصحية، وتطبيقات متعددة الوسائط، والتعلم العميق القابل للتفسير، مما يعزز من إمكانيات الذكاء الاصطناعي. إن هذه الابتكارات لا تسهم فقط في تقدم العلوم والتكنولوجيا، بل تلعب دورًا محوريًا في تحسين جودة الحياة وتعزيز التفاعل البشري مع الأنظمة الذكية.
1. الذكاء الاصطناعي الكمي
يشهد هذا العام تطورات كبيرة في استخدام الحوسبة الكمية لزيادة قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة البيانات وحل المشكلات المعقدة بسرعة غير مسبوقة. يمكن أن يؤدي هذا إلى تحسينات في مجالات مثل الطقس، الطب، والنماذج المالية للشركات والتنبؤ بالأوبئة وغيرها.
على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات التاريخية الخاصة بالأوبئة والبيانات الحالية من المستشفيات والعيادات والمصادر الأخرى، وتساعد تقنيات التعلم العميق في التعرف على الأنماط والتنبؤ بتفشي الأمراض بناءً على البيانات المتاحة. يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي بعد ذلك التنبؤ بمواقع انتشار الأوبئة بناءً على عوامل متعددة مثل الكثافة السكانية، حركة الأفراد، الظروف البيئية، والتغيرات المناخية.
تساعد هذه التنبؤات في توجيه الموارد الصحية واتخاذ التدابير الوقائية في الوقت المناسب. كذلك يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات من الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث لرصد الأعراض والتوجهات الصحية بين السكان. يمكن لهذه المراقبة المبكرة أن توفر إشارات إنذار مبكر حول تفشي مرض معين قبل أن ينتشر بشكل واسع.
مثال – مشروع Microsoft AI for Health:
تستخدم مايكروسوفت الذكاء الاصطناعي لتطوير نماذج تنبؤية لتفشي الأمراض، مما يساعد الحكومات والمؤسسات الصحية في التخطيط والاستجابة الفعالة للأوبئة .
2. الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية
يُستخدم الآن الذكاء الاصطناعي لتطوير أنظمة تشخيص متقدمة وتحليل البيانات الطبية للمرضى لتحسين الرعاية الصحية والتنبؤ بالأمراض بشكل أفضل. هذه هي بعض الأمثلة على استخدام الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية:
- التشخيص الطبي المبكر:
مثال: تستخدم شركة PathAI الذكاء الاصطناعي لتحليل عينات الأنسجة بسرعة ودقة عالية. تُستخدم خوارزميات التعلم العميق لتحديد وجود الخلايا السرطانية في عينات الأنسجة، مما يساعد الأطباء على تشخيص السرطان في مراحله المبكرة وزيادة فرص العلاج الناجح.
- التصوير الطبي:
مثال: تستخدم شركة Zebra Medical Vision الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور الطبية مثل الأشعة السينية والتصوير بالرنين المغناطيسي. يمكن للذكاء الاصطناعي بعد ذلك اكتشاف علامات الأمراض المختلفة مثل السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية بفعالية أكبر من البشر في بعض الحالات. تعمل هذه التقنية على تحليل ملايين الصور الطبية بجودة عالية. يتم تدريب هذه الأنظمة على قواعد بيانات كبيرة تحتوي على صور تم تأكيد تشخيصها. على سبيل المثال، تم تدريب خوارزمية الكشف عن سرطان الثدي على 350,000 صورة أشعة ثدي (ماموغرام).
- إدارة السجلات الصحية الإلكترونية (EHRs):
مثال: تساعد أنظمة مثل IBM Watson Health في تحليل السجلات الصحية الإلكترونية واستخراج المعلومات الحيوية بسرعة، مما يسمح للأطباء بالحصول على رؤى دقيقة حول حالة المرضى واتخاذ قرارات طبية مستنيرة.
- التنبؤ بتفشي الأمراض:
مثال: يستخدم مشروع BlueDot الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات العالمية من المصادر المتعددة مثل الأخبار وتقارير الصحة العامة والتفاعلات الاجتماعية للتنبؤ بتفشي الأمراض المعدية. هذا يسمح للسلطات الصحية باتخاذ إجراءات استباقية لمنع انتشار الأوبئة.
- التطبيقات العلاجية:
مثال: تستخدم شركة BioXcel Therapeutics الذكاء الاصطناعي لاكتشاف وتطوير الأدوية الجديدة. من خلال تحليل البيانات البيولوجية والكيميائية، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح جزيئات جديدة قد تكون فعالة في علاج الأمراض المختلفة .
- الرعاية الصحية الشخصية:
مثال: تستخدم تطبيقات مثل Ada Health الذكاء الاصطناعي لتوفير استشارات صحية شخصية بناءً على الأعراض التي يدخلها المستخدمون. يساعد التطبيق في تقديم توصيات طبية أولية وتوجيه المستخدمين إلى الرعاية المناسبة .
- الجراحة بمساعدة الروبوت:
مثال: تستخدم أنظمة مثل da Vinci Surgical System الذكاء الاصطناعي لتحسين دقة العمليات الجراحية. يمكن للجراحين استخدام هذه الأنظمة للقيام بعمليات دقيقة ومعقدة بفعالية وأمان أكبر. يُعتبر نظام الجراحة دا فينشي من أكثر الأنظمة تقدمًا في مجال الجراحة الروبوتية، حيث يتيح للجراحين تنفيذ إجراءات دقيقة ومعقدة بأقل قدر من التدخل الجراحي التقليدي. يستخدم هذا النظام بشكل شائع في جراحات استئصال البروستاتا لعلاج سرطان البروستاتا. كذلك يُستخدم في جراحات إصلاح صمامات القلب وإجراءات جراحية أخرى داخل القلب. وأيضاً في جراحات إزالة الأورام من الجهاز الهضمي.
3. الذكاء الاصطناعي المتعدد الوسائط
الذكاء الاصطناعي المتعدد الوسائط (Multimodal AI) هو نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه معالجة وتفسير البيانات من مصادر متعددة مثل النصوص والصور والصوت والفيديو وحتى بيانات الحركة والحرارة. هذه النماذج تعزز قدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم تجارب تفاعلية وشاملة أكثر تعقيدًا وواقعية، وتستخدم في التعليم، والترفيه، والتسويق.
مثال: تطبيق Be My Eyes يستخدم الذكاء الاصطناعي متعدد الوسائط لمساعدة المكفوفين في تنفيذ مهام يومية من خلال التفاعل مع الصور والنصوص.
4. التعلم العميق المُفسر
مع تقدم الذكاء الاصطناعي، يواجه البشر تحديًا لفهم وتتبع كيفية وصول الخوارزمية إلى النتيجة. تتحول عملية الحساب بأكملها إلى ما يشار إليه عادة باسم “الصندوق الأسود” الذي يستحيل تفسيره. يتم إنشاء نماذج الصندوق الأسود هذه مباشرة من البيانات. ولا يستطيع حتى المهندسون أو علماء البيانات الذين أنشأوا الخوارزمية فهمها أو شرح ما يحدث بداخلها بالضبط أو كيف وصلت خوارزمية الذكاء الاصطناعي إلى نتيجة محددة.
ولذلك يتم الآن تطوير تقنيات التعلم العميق التي تتيح فهمًا أفضل لكيفية اتخاذ الذكاء الاصطناعي للقرارات، مما يعزز الثقة والقبول العام لهذه التقنيات. والتي يمكن أن تساهم أيضاً في تحسين التفاعلات البشرية مع الأنظمة الذكية وتقديم تفسيرات واضحة للقرارات.
ويُستخدم الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير لوصف نموذج الذكاء الاصطناعي وتأثيره المتوقع وتحيزاته المحتملة. فهو يساعد في تحديد دقة النموذج والعدالة والشفافية والنتائج في عملية صنع القرار المدعومة بالذكاء الاصطناعي. يعد الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير أمرًا بالغ الأهمية للمؤسسة في بناء الثقة عند وضع نماذج الذكاء الاصطناعي في الإنتاج. تساعد إمكانية شرح الذكاء الاصطناعي أيضًا المؤسسة على اعتماد نهج مسؤول لتطوير الذكاء الاصطناعي.
5. الروبوتات الذكية
الابتكارات في تصميم الروبوتات الذكية تجعلها أكثر قدرة على التفاعل بذكاء مع البيئة والبشر، مما يزيد من استخداماتها في الصناعات والخدمات المختلفة. وتوجد الآن العديد من الروبوتات الذكية التي تستخدم في قطاعات مختلفة تشمل المساعدة في الرعاية الصحية، الأعمال المنزلية، والتصنيع، وغيرها.
- الروبوتات المتنقلة الذاتية (AMRs)
هذه الروبوتات تستخدم الذكاء الاصطناعي والرؤية الحاسوبية للتنقل بشكل مستقل في البيئات المختلفة. تجمع هذه الروبوتات بين أجهزة استشعار، وكاميرات ثلاثية الأبعاد، وتقنيات تحديد المدى بالليزر (LIDAR) لتفادي العقبات والتنقل بسلاسة. تستخدم هذه الروبوتات في المستودعات لنقل البضائع، وفي المصانع لتحريك الأجزاء الثقيلة، وأيضًا في المستشفيات لتعقيم الأسطح والهواء.
- الروبوتات التعاونية (Cobots)
هذه الروبوتات مصممة للعمل جنبًا إلى جنب مع البشر في بيئات العمل المختلفة، وتستخدم أجهزة استشعار متقدمة وبرامج لضمان سلامة البشر أثناء التفاعل معها. تُستخدم في خطوط الإنتاج لتجميع الأجزاء واللحام، وفي المستودعات لرفع المواد الثقيلة.
- الروبوتات الذكية للتعقيم
تم تطوير روبوتات قادرة على تعقيم المستشفيات بشكل ذاتي، مستفيدة من تقنيات الذكاء الاصطناعي والرؤية الحاسوبية لتحديد المناطق التي تحتاج إلى تعقيم.
مثال: يُستخدم روبوت “SAM” من شركة Loop Robots لتعقيم الغرف في المستشفيات، مما يقلل من استخدام المواد الكيميائية ويحمي المرضى من العدوى داخل المستشفيات.
- روبوتات المحاكاة
تستخدم شركات مثل Meta وNvidia تقنيات المحاكاة لتدريب الروبوتات في بيئات افتراضية، مما يمنحها خبرة مكافئة لسنوات في بضع ساعات فقط. يمكن لهذه الروبوتات تطبيق ما تعلمته في بيئات العالم الحقيقي بنجاح. وتُستخدم هذه الروبوتات في مجموعة متنوعة من التطبيقات بدءًا من الأعمال المنزلية وحتى المهام الصناعية المعقدة. على سبيل المثال، يمكنها تسليم الطعام والأدوية في الفنادق والمستشفيات بشكل مستقل.
خاتمة
في النهاية يمكن القول أن عام 2024 يشهد تطورات هامة وسريعة في مجال الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على تحسين الأداء والكفاءة، وتعزيز الأمان، وتوسيع نطاق التطبيقات العملية في مختلف المجالات. يعِد ذلك بمستقبل أكثر ذكاءً وكفاءة، حيث تساهم هذه التقنيات في حل المشكلات المعقدة وتحسين جودة الحياة بطرق لم تكن ممكنة من قبل. ومما لا شك فيه إن الاستمرار في الابتكار والبحث في هذا المجال سيؤدي إلى مزيد من التطورات المثيرة التي ستغير وجه العالم للأفضل.